بلا وصاية: كيف سنروي حكايتنا؟ حوار مع حسني المخلص عن النص والعرض

يجيب حسني في هذه المقابلة عن أسئلة تتعلق بالأصالة وتسخير وتطوير الأشكال الفنية المحلية.
 

محمد: مرحباً حسني، أود أن أشكرك لمشاركتك معنا واهتمامك بهذا المشروع. هل لك أن تمدنا بلمحةٍ عن عملك ومسيرتك في البداية؟

حسني: بعد علاقة طويلة مع مسرح الخشبة، التي بدأت من الصبا وتطورت في الشباب من خلال تكوينات ومشاركات في عدة عروض لمسرح الهواة، وبعد انتقالي للعيش لفترة  بإسبانيا اهتممت وتكونت على مسرح المقهورين كأداة فنية ونضالية في نفس الوقت، ثم بعد عودتي إلى أرض الوطن قمت بتأسيس بمعية أصدقاء "فرقة مسرح المحكور الدار البيضاء"، التي تمزج بين تقنيات مسرح المقهورين وفن "الحلقة" الشعبي المعروف في شوارع المغرب. الآن كمدير فني للفرقة أعمل على تطوير عروض جديدة وتكوين مهتمين جدد بهذا النوع من المسرح.

محمد: ربما يجب أن ننتقل إلى السؤال الأساسي: لماذا الشوارع أو المساحات العامة؟ وما الذي يجعل منها خيارات فنية مغرية تميزها عن المساحة التقليدية؟ 

حسني: دوما ما يحلو لي ترديد "إن لم يذهب الجمهور عند المسرح فعلى المسرح أن يذهب عند الجمهور"، لكن هذا لا يعني أن اختيار الشارع فقط رد على أزمة الجمهور الذي يعيشها المسرح سواء في المغرب أو في بلدان أخرى، الموضوع يتجاوز ذلك طبعا. بالمغرب هناك ثقافة ضاربة في القدم للفنون الفرجوية، إذ لا تخلو الأسواق الشعبية من حكواتيين ومهرجين ولاعبي الخفة، أو ما يسمى أكاديميا بالأشكال الفرجوية، لذا فإن تقديم واستقبال الفرجة في الفضاء العام تحصيل حاصل هنا، لكن دوما ما ينظر إليه كثرات غير قابل للتطوير وغير مسموح بلمسه، السؤال هنا، لماذا نستورد أنماط مسرحية غربية بينما يوجد في ثقافتنا من الغنى ما يمكن استثماره وتطويره؟ والغنى الذي أتحدث عنه هو غنى الفرجة في المساحات العامة.

الشوارع عالم آخر يختلف تماما عن القاعات المغلقة، أول ما يغريك هو أن أي عرض شارع ولو لنفس العمل تحدٍ جديد، إذ أن الفضاء يختلف ونوعية الجمهور تختلف حسب نوعية الفضاء المختار للعرض. ثم أنك  في الشارع تلعب في ملعب الجمهور وليس في ملعبك أي القاعة المغلقة، أنت ضيف على الجمهور وليس العكس، وفي الشارع لديك جمهور متحرك قد يقف دقيقة أو دقيقتين ويتحرك فإن لم تستطع إثارة إعجابه يتركك ويرحل بكل بساطة، فهو جمهور لا يعرف المحاباة كجمهور القاعات المغلقة.

وما يزيد الأمر إغراء هو أننا نشتغل على مسرح تفاعلي إذ ندعو الجمهور للعب معنا خلال أو في آخر العرض، مما يجعل العرض قابل للتحول حسب ما يريد الجمهور نفسه، المغري هنا هو أن هذا الجمهور المتنوع بشكل يستحيل أن تجده في القاعات المغلقة، فقد تجد بائعا متجولا أو متشردا أو بنكيا أو ربة بيت أو طالبة، هذا التنوع عندما يتفاعل معك في العرض وكأنك تقدم  بصيغة فنية المجتمع لنفسه وتضعه أمام المرآة.

محمد: وما هي الاختلافات التي يجب على مؤدٍ اليوم أن يأخذها بعين الاعتبار إن فكّر بخيارٍ مشابه؟

حسني: كما قلت سلفا على مؤدي هذا النوع من المسرح أن يعي جيدا أنه يلعب خارج ملعبه وأنه ضيف وليس مضيف كمسرح القاعة. ثم عليه أن تكون له قدرة عالية في الارتجال إذ أن الجمهور قريب منك جدا ويمكنه أن يعلق في أي لحظة أو أن يشارك كما هو الحال في النوع المسرحي الذي نقدم. ثم عليه أن يأخذ بعين الاعتبار مجموعة من العوامل قد لا نستحضرها في مسرح القاعة، كحالة الطقس وطبيعة الفضاء والمتدخلين فيه،عليه أن يعي بالمميزات الاجتماعية والثقافية لكل جمهور وأن يتأقلم معها، فالهدف إمتاعه وليس مواجهته، ثم عليه أن يكون سريعا في ردود أفعاله في حالات وجود خطر مثلا.

وبإيجاز، على المؤدي أن ينتمي لهذا الجمهور فهو ينتمي إلى مستواه ذاته حَرفيا، أي مستوى الأرض، وليس عاليا عليهم وبعيدا منهم كما هو الشأن في مسرح الخشبة.

محمد:  يحدد أوغستو بوال مصطلح Spect-actors كمزيج بين (المتفرج – Spectator) و(الممثل – Actor)، وذلك رفضاً لعلاقة الفرجة التقليدية، التي تضع حدوداً صلبة وواضحة بين الجهتين السابقتين وتمنع تفاعلهما. ما الدور الذي يمكن أن يلعبه المتفرج الجديد في علاقة أكثر تبادلية؟ ولنقل في عملٍ كـ تي جين وإخوته الذي يقدم ثلاث حالاتٍ مختلفة تحاول التصدي للشرير/المستعمر، ولكل منها ما تزخر به من مواطن تستحق التعليق أو التغيير أو النظر إليها من مناظير مختلفة.

حسني: دعنا نقول أن الفنون بصفة عامة تتطور مع تطور المجتمعات والقيم الجمالية والأخلاقية السائدة، ويبدو أن المجتمعات العربية تعبت من الآخر المتعالي غير القابل للنقد، تعبت من التصفيق أو عدم الرضا ثم الصمت. دعنا نقول أن جمهورنا تعب من أن نقرر بدله لا سياسيا ولا حتى فنيا. لذا فإني أجد اقتراح أوغستو بوال مسرح المنتدى الذي يشرك المتفرج في العملية الإبداعية، اقتراح بالغ الذكاء والأهمية. لقد علمتني تجربتي أن القدرة الاقتراحية لذى الجمهور قد تفاجئك  من حيث لا تدري وقد تكون منبع إلهام ايضا، دوما ما يردد المسرحيون "نحن نعمل من أجل إرضاء الجمهور"، هل التصفيق هو المؤشر لإرضاء الجمهور، هل جملة "لقد كنتم رائعين" هو دليل على الإرضاء، اعتقد أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير، فإذا كانت العروض هي للجمهور فما حك جلدك سوى ظفرك.

صحيح أن الجمهور لا يمتلك التقنيات المسرحية اللازمة، لكن التقنية تظل أداة للتعبير وصنع الجمال، والجمهور لديه ما يكفي من الطاقة للتعبير وصنع الجمال خصوصاً إذا تملك العرض واعتبر نفسه جزءا منه. العلاقة التبادلية ومحو الحاجز بين المتفرج والممثل هو العودة إلى أصول المسرح الأولى وجذوره كما يشرح بوال نفسه، العودة إلى الاحتفالية حيث الكل يشارك ويتفاعل ويدلي بدلوه. إنه اختيار يعمل على دمقرطة العملية المسرحية وجعلها أكثر بهاء. إن نص تي جين وإخوته نموذج جيد، فهو يقدم اقتراحات حول طرق التصدي للشر، لكن دعنا نتساءل هل اقتراحات النص هي الوحيدة الممكنة، أم يمكن أن نبدع طرقا أخرى، ألا يمكننا أن نفكر في إعادة كتابة النص، وما المسرح التفاعلي في آخر المطاف سوى دعوة لإعادة كتابة النص وتجريبه إلى ما لانهاية.

محمد: يستند والكوت في بناء تي جين وإخوته إلى حكاية شعبية من سانت لوسيا؛ مسقط رأسه والجزيرة ذاتها التي سيطوّر الكاتب نصه ليروي قصتها وكفاحها. ويذهب والكوت بهذه العملية إلى ما هو أبعد من الموضوعات وحسب ليقرّب العمل من بيئته المحلية. إلى أي حد يمكن للأشكال المسرحية البديلة هذه أن تؤدي الوظيفة ذاتها وتخرج بمسرحٍ يسخّر الموروث الشعبي ويقترب من الثقافة والهوية الخاصتين بالمكان الذي ينتمي إليه ليعبر عن همومه أو مشاكله، إذا ما قورن بالخشبة التقليدية؟ 

حسني: كما شرحت سلفا أنا أشتغل على التراث الفرجوي الشعبي إيمانا مني بأن أي ثقافة غنية بما يكفي أن تبدع فنها الخاص بها، ثم لأني ربما أنتمي عن وعي أو لا ، لنموذج المبدعين الذي يرون أن وجب علينا الآن وأكثر من أي وقت مضى التخلص من عقدة المستورَد وربط الجودة مما يأتي من الغرب.

نعم الأشكال المسرحية المسماة بالبديلة، والتي تلقى اهتماما أكثر وأكثر من طرف الشباب في المنطقة العربية، خصوصا بعد ربيع الشعوب، لها كل الخصوصيات والقدرات على أن تنتج لنا مسرحا  ينهل من هويتنا الثقافية ويختبر قدرتها على مواكبة العصر وبل وتحدي كل الأحكام المسبقة حول قدرتنا كشعوب على الإبداع والابتكار. ثم إن كنا لا ننتج ولا نستهلك سوى ما تجود علينا به الموارد الطبيعة أو ما نستورده، فلننتج الثقافة على الأقل.

حسني المخلص: مسرحي مغربي والمدير الفني لمجموعة مسرح المحكور الدار البيضاء